ولا شك أن مقارنة هذين الهدفين لا ينبغي أن تفرض فيما بينهما خيارًا يستبعد أحدهما، ولا أن تدعهما يتعاقبان أمام الإرادة، إذ إنهما بالأحرى، عنصران مكملان، يؤدي التنوع في القيمة الواقعية إلى جعلهما لازمين لكمال المثل الأعلى، بل إننا نستطيع أن نؤكد أيضًا أنهما يتعايشان فعلًا في الأنفس المطمئنة، مع قدر من التنوع يغلب أحدهما تارة، والآخر تارة أخرى، في الضمير المستنير. ذلك أن المؤمن الذي يطيع أكثر الأوامر غموضًا، حتى ما يبدو منها قاسيًا، قلما يقصد أن يخضع نفسه لنزوة، أو اعتساف. فهو حتى حين لا يرى تلك الأوامر ومضة عقل، لا يقلل ذلك من اعتقاده الجازم بأن هناك أوامر أخرى مفعمة بالحكمة، وهو يخضع لها ضمنًا، ويسعى في تحقيقها دون أن يفقه طبيعتها، وذلك هو ما تحدث عنه القرآن في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [1] -هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، إن الاهتمام بتحقيق الخير الأخلاقي الذي يدرك دون كبير عناء في أكثر الأوامر الواضحة عدلًا -لا ينفصل مطلقًا في ضمير المؤمن عن شعور يجده في نفسه، يتفاوت في درجة غموضه، ولكنه يحمل في طياته رضاه العام، وغير المشروط، بكل القواعد الأخرى، وبدون هذا الرضا لن يكون جديرًا بلقب "المؤمن": {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [2].
وهكذا نجد أن وجهتي النظر بالنسبة إلى الأخلاق الدينية متعاضدتان، [1] النساء: 66. [2] النساء: 65.