ويأتي الأحناف والشافعية على النقيض من ذلك تمامًا، فهم قلما يعنون بمثل هذا التفتيش عن المعنى، الذي لا بد أن الحالف أراد أن يعبر عنه، وإنما يدخلون مباشرة في الكلمات المنطوقة، ويتمسكون بمعناها الحرفي، ومن ثم كان على الأحناف أن يصوبوا شرعًا جميع المنافذ والحيل، ما دامت لا تصطدم بحرفية أقوالنا. الأمر الذي جعل ابن حنبل، إمام المذهب السلفي المتشدد، يقول فيهم قولته المشهورة: "عجبت مما يقولون في الحيل والأيمان، يبطلون الأيمان بالحيل"[1].
بيد أن أكثر ما يدهش في موقف الأحناف هو أنه قليلًا ما يتسق مع نظريتهم العامة، الكثيرة الاعتماد على العقل. ونحن نعلم كيف كانوا في مواجهة النصوص المقدسة يمتازون بثاقب الفكر، محاولين دائمًا أن يدركوا علتها، ومستعملين غالبًا التعليل بالقياس، وربما أفرطوا في استعماله. ولكنهم حين يتعرضون لتفسير عقد، أو نذر، وبصفة عامة كل ما يقتضي جزاء أو كفارة، فإنهم كانوا يمسكون عن كل تفسير، ويقبلون جميع الوسائل الملتوية، بشرط واحد فقط، هو ألا تتعارض هذه الوسائل مع النص الجامد للقاعدة المقررة.
ومن هنا نفهم الحدة والقسوة لدى أحد علماء المدرسة الظاهرية وهو ابن حزم، حين ذهب إلى حد اتهام أتباع المذهب الحنفي بأنهم لا يشجعون بطريقهم هذه على الرذيلة فحسب، بل إنهم يعلمون المجرمين كيف يرتكبون كل ما يريدون، من السرقة، وهتك الأعراض، والإرهاب، وقتل النفس، وهم آمنون من إقامة الحد عليهم، حتى لو أنهم أخذوا في حالة تلبس[2]. [1] الموافقات الشاطبي 1/ 290. [2] يحسن بنا أن نورد هنا حديث ابن حزم في هذا الموضوع بنصه، فهو معبر عن أقصى درجات القسوة في تناوله لمسائل الفقه وخلافياته، فكأنه ممسك بسوط، يهوي به على ظهور السابقين عليه من الفقهاء الأجلاء. حتى ليبلغ أحيانًا درجة الإسفاف في نعتهم، وتلك هي=