إذًا (اعْلَمْ). نقول: هذا فعل أمر مشتق من العلم، والعلم: هو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا. وإن شئت قلت: صفةٌ يميز المتصف بها تمييزًا جازمًا مطابقًا. يميز بين الجواهر والأعراض والأجسام، ويميز أيضًا بين ما يجب لله، وما يجوز لله، وما يمتنع على الله جل وعلا، تمييزًا جازمًا مطابقًا، لا بد من أن يكون عِلمًا أن يكون جازمًا ضدُّه الشَّكُ والظَّنُّ، فإن التمييز لا يكون في الشك، ولا يكون جازمًا في الظن، مطابقًا للواقع، فإذا حكمت حكمًا جازمًا ولكنه لم يطابق الواقع يعني الخارج فحينئذٍ لا يكون علمًا، وإنما يكون اعتقادًا. والفرق بين العلم والاعتقاد هذا لا بد أن يعتني به طالب العلم، ويأتي معنا إن شاء الله في هذه الرسالة لأنه سيأتي أن من شروط لا إله إلا الله اليقين والصدق والإخلاص هذه لا بد أن يعرف لهذه المدارك كلها على جهة الإحاطة.
(اعْلَمْ) نقول: اعلم هذه كلمةُ تنبيهٍ يعني كن متهيئًا لما يُلقى إليك من العلوم، وكلمة يؤتى بها عند ذكر الأشياء المهمة، وما سيذكره رحمه الله من هذا أو بيان المسائل الأربعة المشتملة على بيان طريق النجاة في الدنيا والآخرة، نقول: هذا من أهم المهمات.
(اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ) هذه جملة خبريةٌ لفظًا، إنشائيةٌ معنى لأن المراد بها الدعاء للمتعلم، دعا المصنف للقارئ، دعا للمستمع، دعا للمتعلم أن يرحمه الله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة، لذلك نقول: هي خبرية لفظًا إنشائية معنى، لأن (رَحِمَكَ اللهُ) هذا إخبار بإيقاع الرحمة حَصَلَ، قام زيد، حصل القيام، (رَحِمَكَ اللهُ) حصلت الرحمة، أليس كذلك؟ لكن من جهة المعنى المراد بها الدعاء، كأنه قال: اللهم ارحم عبدك القارئ فلان مثلاً، فنقول: هذه الجملة من جهة اللفظ هي خبرية، لأنها تحتمل الصدق والكذب، ومن جهة المعنى إنشائية لأنها دعاء للمتعلم.
الرحمة المراد بها إن كانت غير مقترنة بالمغفرة فحينئذٍ تشمل الماضي والمستقبل، (رَحِمَكَ اللهُ) يعني غفر الله لك ما مضى من ذنوبك، ووفقك، وعصمك وسلمك من شرور الذنوب وعاقبتها في الزمان المستقبل، فشملت الماضي والمستقبل، مغفرة الذنوب في الماضي، والسلامة من عاقبة الذنوب وشرِّها في المستقبل، هذا إن أفردت الرحمة. قال: وإن قُرِنَت بالمغفرة فحينئذٍ المغفرة لما مضى، والرحمة تكون لما يُستقبل، فيكون المغفرة المراد بها، لو قال: رحمك الله وغفر الله لك جمع بينهما حينئذٍ نفسر الرحمة رحمك الله يعني سلمك في المستقبل، ووفقك، وعصمك من الذنوب ومن شرِّ الذنوب إن وقعت، وغفر لك يعني فيما مضى من الذنوب.
(اعلم رَحِمَكَ اللهُ) نقول: هذا دعاء للمتعلم بالرحمة، وهذا فيه تلطف وتنبيه على أن مبنى هذا العلم التلطف والرحمة بالمتعلمين {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، إذًا لا بد من الرحمة في مجال العلم والتعلم.