نام کتاب : آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي نویسنده : البشير الإبراهيمي جلد : 1 صفحه : 203
قفص من أمّيته، وهو كالطائر قصّ جناحاه فلا يغنيه مع ذلك أن يكون اسمه (طائر). وما دامت المدركات الإنسانية قاصرة على البسائط لا تتناول المدركات العليا، فإن التفكير يكون بسيطًا. فإن ارتفع قليلًا فذلك إما آت من فطرة سليمة أو من تجاريب صحيحة.
أما آفاق التفكير الفسيحة التي تسبح فيها أفكار المفكرين، فإنها لا تفتح إلا بالقراءة والدراسة. وأنّى للأمّي بهما. وان فيما نراه سائدًا في أوساطنا الجزائرية من بساطة التفكير وتدلّيه خصوصًا في الشؤون العامة، إن في ذلك الذي نراه ونشاهده ونتأسف له لدليلًا على أن هذه الأميّة هي أخت الوثنية في الفتك بالعقول وتعطيل مواهبها. فلا كانت الأميّة ولا كانت الوثنية، من رضيعتي لبان واحد، وربيبتي حجر واحد.
والأميّة، أيها الإخوان، تتفاوت شناعتها وقبحها في الأمم بتفاوت عهود البداوة والخضرمة والحضارة، فيهون أمرها نوعًا في الأمم البدوية القريبة من مناحي الفطرة في مظاهر حياتها. ومن هذا القبيل شأن العرب. فإن الأميّة لم تقعد بهم عن مجاراة أمم الحكمة وإن قعدت بهم عن مجاراة أمم العلم والصناعة. وما ذلك إلا لأن حياتهم كانت بسيطة غير معقدة. ومع ذلك فإن أهل الكتاب كانوا يعدّونها في العرب وصمة وحطة وسبب احتقار. فقد حكى الله عنهم أنهم كانوا يقولون: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}. والعرب أنفسهم كانوا يشعرون بغضاضة الأميّة كما يشعر الجاهل بغضاضة الجهل. وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا: {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ}.
ونستثني من هذا كله حال نبيّنا - صلى الله عليه وسلم - ونعته بالأمّي، فإن ذلك كان لحكمة ظاهرة السر معقولة المعنى، وكان معجزة، والمعجزة من أفق آخر فوق العادات والقواعد والسنن.
ويتجلّى قبحها وشناعتها وغضاضتها في عهود الحضارة كحالنا اليوم، فإن الحياة في عهدنا تتطلب ممن يريدونها ويحرصون عليها تفكيرًا منظمًا ينبني عليه عمل منظم، وتتطلب منهم اضطرابًا في سكون وسلمًا في حرب وحربًا في سلم وأنواعًا شتّى من المصارعات بين الهوى والعقل في الحي الواحد وبين الحي والحي في الميدان الواحد وعلى المطلب الواحد. فهذا بعض ما تفرضه الحياة على الأحياء وتعدّه من شروطها. وأما الأميّة فإنها تطبع المصابين بها بطابع حيواني ساذج، فنراه حيًا كميت ومتحركًا كساكن، يضطرب من نفسه في المضطرب الضيّق ويقف عند حدود تفكيره وقفة الجبان الهيوب المتردّد، وتمرّ عليه مواكب الحياة المجدّة في السير والتنقّل، الممعنة في الحركة والتحوّل، وحظه من ذلك كله التفرج والاستغراب.
أيها السادة: إن الأمم الحية في وقتنا هذا ما حييت إلا بالعلم الاختباري التطبيقي، وأساس هذا العلم- وإن علا- القراءة والكتابة. ولما انتهى العلماء منهم إلى أبعد غاية في العلم وتسنموا منه أعلى ذروة، التفتوا يتبيّنون الطريق التي وصلوا منها إلى هذه الغايات
نام کتاب : آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي نویسنده : البشير الإبراهيمي جلد : 1 صفحه : 203